دبلوماسية محمد بن سلمان- صبر وحنكة نحو استقرار المنطقة

المؤلف: جميل الذيابي10.18.2025
دبلوماسية محمد بن سلمان- صبر وحنكة نحو استقرار المنطقة

مما لا شك فيه أن التحولات المتسارعة التي نشهدها في هذه الحقبة الزمنية قد تبدو للكثيرين وكأنها وليدة الصدفة أو محض وليدة اللحظة الراهنة. ولكن إذا أمعن المراقب النظر وتدبر ملياً، فسيكتشف أن المملكة العربية السعودية قد عملت باجتهاد ومثابرة على مر السنين لمواجهة التحديات الجسام، وذلك بهدف إحداث هذه التغيرات الجذرية التي نشهدها الآن.

سمِّها ما شئت، ولكنها باختصار شديد، هي نتاج الدبلوماسية الرصينة التي يقودها ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء السعودي، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود.

إنها دبلوماسية لا تعرف التهور ولا تستجيب لردود الأفعال المتسرعة، ولا تفسح المجال لأصحاب المصالح الضيقة. ولعل أبرز ما يميزها هو اتساع صدرها للصبر والأناة. وهي تنبع أساساً من الحرص الشديد على مستقبل المنطقة وأمنها، باعتبار أن المملكة العربية السعودية هي أحد أطرافها الفاعلة والمؤثرة.

هذا الصبر الممزوج بالحكمة والتعالي على أصوات النشاز، قد أثمر حلاً للأزمة في لبنان، حيث توافق اللبنانيون بأغلبية ساحقة على انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية، بعد فراغ رئاسي استمر قرابة 26 شهراً. صحيح أن التغيير في لبنان قد تحقق بفضل عوامل متعددة، لعل أبرزها تضاؤل نفوذ حزب الله اللبناني وتراجع دوره، بالإضافة إلى انهيار نظام بشار الأسد الذي طالما هيمن على لبنان منذ عهد والده حافظ الأسد في ثمانينيات القرن الماضي. كما أن التناغم السعودي مع العراق قد أقنع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بأن استمرار فوضى الجماعات المسلحة سيؤدي إلى زعزعة استقرار العراق وتقويض أمنه. ولهذا، بادر السوداني إلى وضع خطة شاملة لحصر السلاح بيد الدولة العراقية. وقد وجد السوداني في هذا التوقيت فرصة سانحة لمواجهة الجماعات المسلحة التي تعمل لصالح قوى خارجية، وكبح جماحها.

وسارعت الدبلوماسية السعودية بقيادة ولي العهد إلى حماية مسار التغيير في سورية، بعد تدهور الأوضاع فيها. فقد حذرت المملكة من مغبة الانزلاق إلى الماضي والتمسك بأيديولوجيات عفى عليها الزمن. وأرسلت المملكة وفوداً متتالية إلى دمشق الحرة، للتشاور وتقديم الدعم الإنساني والإغاثي للشعب السوري الشقيق. ولهذا، اختارت الإدارة السورية الجديدة أن تكون المملكة العربية السعودية هي أول وجهة خارجية لوزير خارجيتها. وفي لبنان، لم يكن التغيير بالأمر الهين، فقد بذلت الدبلوماسية السعودية جهوداً مضنية لإقناع الأطراف اللبنانية المتنازعة بالتوصل إلى اتفاق ينهي حالة الشغور الرئاسي في قصر بعبدا. ودعت الرياض بشدة إلى التوافق على اختيار قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً للبلاد. وقد أوضح الرئيس عون بجلاء في كلمته التي ألقاها أمام أعضاء مجلس النواب بعد أدائه اليمين الدستورية، أن لبنان سيعود إلى جذوره العربية وإلى استعادة علاقاته الوثيقة مع أشقائه العرب، وخاصةً المملكة العربية السعودية التي لطالما دعمت استقرار لبنان واقتصاده وأمنه على مر التاريخ المعاصر، مؤكداً على أن الدولة وحدها هي من ستمتلك الحق في حمل السلاح. ولهذا، لم يكن مستغرباً أن يعلن الرئيس عون من قصر بعبدا أن المملكة العربية السعودية ستكون أول محطة خارجية له بعد تنصيبه.

صحيح أن الأمير محمد بن سلمان منهمك في تحقيق أهداف رؤية المملكة 2030، وهي خطة طموحة تتوزع بين الاقتصاد والسياسة والإصلاح الاجتماعي والاستثمار وغيرها من المجالات الحيوية. ومع ذلك، ظل سموه مهموماً بالقضايا العربية وإيجاد حلول للأزمات ومواجهة التحديات الجسام التي تواجه المنطقة. ولم يتوانَ عن التحذير من مغبة الاضطرابات في المنطقة في كل مناسبة. وهي تحذيرات لم تقتصر على مجرد إبداء المخاوف، بل كانت مدعومة بجهود دبلوماسية حثيثة لا تعرف الكلل. فعندما ترأس ولي العهد القمة العربية الأمريكية في جدة عام 2022، أبلغ القادة العرب والرئيس الأمريكي آنذاك جو بايدن بأن التعامل مع تحديات المنطقة والعالم يتطلب التحلي بالواقعية والمسؤولية. وتطلع الأمير محمد بن سلمان إلى "مرحلة جديدة نبعث فيها الأمل في نفوس شباب وشابات المنطقة بمستقبل مشرق". وشدد سموه على أن "اكتمال منظومة الأمن والاستقرار والازدهار في المنطقة يتطلب إيجاد حلول سياسية واقعية للأزمات الأخرى" في كل من ليبيا والسودان وسورية والعراق.

وأمام القمة العربية التي استضافتها المملكة العربية السعودية في جدة في 19 مايو 2023، أطلق ولي العهد السعودي أقوى تحذيراته بشأن الوضع الراهن في الوطن العربي، قائلاً: "لن نسمح بأن تتحول منطقتنا إلى ساحة للصراعات". وأضاف: "نؤكد أننا ماضون قدماً نحو السلام والخير والتعاون". هكذا هي رؤية قائد عربي سعودي شاب. وتلك هي قيمه ومثله العليا التي تنتهجها الدبلوماسية السعودية. وما تحقق من تحولات إيجابية في المنطقة لم يأتِ بين عشية وضحاها، بل تطلب من الدبلوماسية السعودية التمسك بالحوار والصبر الجميل، على الرغم من كل العقبات والمؤامرات ومحاولات تشويه المواقف السعودية النبيلة. وهذا الكفاح لن يتوقف لمجرد وقوع التغيير في سورية ولبنان والعراق، بل سيستمر من أجل القضية المركزية - قضية فلسطين - وإحلال سلام دائم في السودان والتوصل إلى حل سلمي في اليمن لكي يعود "السعيد" إلى سابق عهده.

الأكيد أنه في ظل السلام والاستقرار اللذين يسودان المنطقة من الخليج إلى المحيط، سيكون الصوت الأعلى لشعوب المنطقة هو صوت التنمية والازدهار والتعاون البناء. وليس للحروب والخصام والاستقواء بالقوى التي كانت تسعى إلى الهيمنة وتعطيل مصالح الشعوب العربية... التي حان لها أن تحلم بمستقبل مشرق... وسيذكر التاريخ للأمير محمد بن سلمان هذه الجهود الحثيثة والأهداف النبيلة والدبلوماسية الذكية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة